الكلمة والسلطة- صراع البلاغة والحكم بين شيشرون وطرفة

العلاقة بين الكلمة والسلطة معقدة ومتشابكة، لا تخضع لضوابط محددة، بل تحكمها ديناميكية القوة والتغلب. فإما أن تكون الكلمة خاضعة للسلطة، أو أن تمارس الكلمة سلطتها الخاصة، ولا يوجد حل وسط بينهما. على مر التاريخ، كانت الكلمة ولا تزال أداة قوية للتأثير في الأفكار وتغيير الواقع، مما يجعلها محل صراع دائم بين القوى الراغبة في الحفاظ على الوضع الراهن وتلك التي تسعى إلى التغيير الجذري. وتُمنح الكلمة أو تُنتزع تبعًا لموازين القوى المتغيرة بين أفراد المجتمع الواحد، أو داخل التجمعات التي تضم مجتمعات متعددة.
إن القاسم المشترك بين شيشرون، الشخصية البارزة في ثلاثية روبرت هاريس، وطرفة بن العبد، بطل رواية وليد سيف، يكمن في تلك القدرة البلاغية الفذة التي تمكن المتحدث من صياغة الكلام المناسب لكل مقام، وهو ما يثير في نفس السامع إعجابًا ورهبة، ويحرك مشاعره ويثير عواطفه الجياشة.
يدعونا كل من روبرت هاريس في ثلاثيته عن "شيشرون" ووليد سيف في روايته "الشاعر والملك" إلى التدبر والتفكر في طبيعة العلاقة المعقدة بين قوة الشعر والبلاغة والخطابة من جهة، وبين سلطة الحكم والملك والإمارة من جهة أخرى مغايرة. على الرغم من اختلاف الخلفيات التاريخية التي يستمد منها كل منهما مادته، حيث يأخذنا روبرت هاريس في رحلة إلى روما القديمة، بينما يعود بنا وليد سيف إلى عصر الشعر الجاهلي في شبه الجزيرة العربية، إلا أن ما يجمعهما هو القدرة الفائقة على استكشاف أعماق النفس البشرية، والغوص في الأحاسيس والمشاعر المتضاربة التي تنشأ نتيجة التفاعل مع السلطتين؛ سلطة الكلمة وسلطة الحكم.
يكمن الرابط الجوهري بين شيشرون، بطل ثلاثية هاريس، وطرفة بن العبد، الشخصية الرئيسية في رواية سيف، في تلك المَلَكة البلاغية الاستثنائية التي تُمكّن المتحدث من إيجاد الكلام المؤثر والمتناسب مع مقتضيات اللحظة، وهو ما يثير في نفس المتلقي شعورًا بالإعجاب والرهبة، ويحفز مشاعره ويثير عواطفه المتأججة. لقد لعبت الكلمة دورًا محوريًا في صعود كل من شيشرون وطرفة إلى القمة، قبل أن تهوي بهما إلى الحضيض، حيث تلاشت الآمال في توثيق العلاقة بين سلطة الكلمة والسلطة الحاكمة، ليلاقي كل منهما مصيره المحتوم: الأول، شيشرون، بضربة سيف تقطع رأسه عن جسده؛ والثاني، طرفة، بصلبه على جذع نخلة.
على الرغم من أوجه التشابه الظاهرة، توجد اختلافات جوهرية تجعل تجربة كل منهما فريدة ومتميزة عن الآخر، ولعل هذا التباين يعود إلى الموروث السياسي والثقافي الذي ينتمي إليه كل منهما، وإلى ما أفرزه هذا التراث من أساليب في تطويع اللغة والكلمات والبلاغة والفصاحة والشعر لخدمة أغراضه. فبينما يدعونا روبرت هاريس إلى التفكير مليًا في مستقبل الديمقراطيات الأوروبية من خلال تصوير الصراعات الدامية على السلطة التي شهدتها روما القديمة في زمن شيشرون، يحثنا وليد سيف على التأمل العميق في البطولة الشعرية في عالمنا العربي المعاصر وعلاقتها بالسلطة السياسية، وذلك من خلال سرد مغامرات طرفة الشعرية وتجواله بين مضارب القبائل والفيافي القاحلة وقصور السلطان.
العواقب الوخيمة للانخراط السياسي عند شيشرون
أدرك شيشرون بحسه السياسي المرهف أن الانخراط في الشؤون العامة يتطلب قدرًا من التنازل والتساهل، بدلًا من التمسك الجامد بالمبادئ والقيم، هذا التشبث الذي لا يجلب للمرء إلا "المنفى والفقر والألم العميق". كما كان يرى أن الفضيلة الحقيقية لا تكمن في تجريد الإنسان نفسه من القوة والنفوذ، وهو يحلم بأن يصبح مثالًا ساطعًا يُدرَّس لتلاميذ مملين، فيقال عنه إنه الرجل الذي رفض المساومة على مبادئه وضميره بشكل قاطع، "ربما يصل الأمر إلى حد نصب تمثال لي خلف منصة الخطابة، لكني لا أرغب في نصب تذكاري. فأنا أتقن فن الحكم أكثر من أي شيء آخر، وهذا يتطلب مني البقاء حيًا وفي روما".
بخلاف المنتمين إلى الطبقة الأرستقراطية وأصحاب الجاه والثروة وقادة الجيوش، لم يكن شيشرون يمتلك أي وسيلة أخرى للوصول إلى السلطة الرسمية والسياسية سوى براعته الفائقة في فنون البلاغة والخطابة. فقد استفاد أيما استفادة من دروس معلمه "مولون" في البلاغة، حيث استوعب أن فن الخطابة يرتكز على ثلاثة أسس لا غير: "الإلقاء، ثم الإلقاء، ثم الإلقاء". وهكذا تمكن من تحقيق مكانة مرموقة في روما، ليصبح صوتًا قويًا لا يعير اهتمامًا كبيرًا بالمبادئ والقيم بقدر اهتمامه بالشكل والمظهر الخارجي، لا سيما عندما يتعلق الأمر بتحقيق أهدافه السياسية. وقد نجح شيشرون بالفعل في كسب معظم قضاياه في محاكم روما بفضل أسلوبه الخطابي الساحر والآسر، وليس بالاعتماد على عدالة هذه القضايا.
وتعلّم شيشرون بذكائه الفطري كيف يحول الكلمات إلى أدوات فعالة للتفوق في فنون الحكم والقيادة. فقد برع في استخدام الأساليب البلاغية المناسبة لتمرير رسائله المؤثرة التي تصنع الرأي العام، وتساهم في ترسيخ موازين القوى، وتعين على سلوك مسالك العمل السياسي. فكلما ازداد شيشرون انغماسًا في الشؤون السياسية الرومانية، ازداد ابتعادًا عن الشعراء ونفورًا من لغتهم الجامحة، حتى بلغ به الأمر حد القول: "إن أفضل أنواع الحكم وأسوأها يكمن في الحكم إذا سقط في يد شعراء أذكياء".
أظهر طرفة بن العبد نبوغًا شعريًا لافتًا في سن مبكرة، عندما تجرأ على تصحيح شاعر مرموق أمام الملأ. فأما والده فقد وجد في كلامه ما يدعو إلى الاعتزاز والفخر، حيث قال: "الآن علمت أن لي عزوة وقوة في لسان ولدي هذا".
لم يستخدم شيشرون بلاغة اللغة للغوص في أعماق النفس البشرية، أو لابتغاء ضروب البطولة الكونية كما يفعل الشعراء المنعزلون عن الواقع السياسي الروماني، بل اختار أن يتوسل بفنون البلاغة والخطابة لتحقيق القوة المؤثرة في هذا الواقع. فعوضًا عن اعتزال الحياة السياسية والانزواء في طلبات فلسفية متأملة، كما تم الاتفاق مع القيصر يوليوس، سقط شيشرون ضحية حماس مفرط أملى عليه ثقة زائدة بالنفس وتوهمًا بقدرته على التلاعب بدكتاتور روما الجديد القيصر أوكتافيان، حتى إنه قال عنه: "بإمكاننا أن نصنعه، فنمدحه، ثم نمحوه".
ويا ليته انصرف عن الحياة السياسية ليخلو إلى تأملاته الفلسفية، بعيدًا عن أهوال الحياة السياسية المتقلبة في روما. لو أنه فعل ذلك لنجا من الموت المحتوم بضربة السيف. لقد آثر شيشرون مواصلة الانشغال بالشؤون السياسية، غافلًا عن الحقيقة التي مفادها أن الديكتاتورية لا تقبل إلا بخيارين لا ثالث لهما: إما خضوع الكلمة لإملاءاتها وتسلطها، أو سكوتها التام والمطبق.
طرفة.. الشاعر الذي أودى به طموحه الشعري الجامح
تجلى نبوغ طرفة بن العبد الشعري في بواكيره، عندما تجرأ على تصحيح شاعر لامع أمام حشد من الناس. أما والده، فقد رأى في كلامه ما يملأ صدره فخرًا، فقال معتزًا: "الآن علمت أن لي سندًا وقوة في فصاحة ابني". بالمقابل، كان خاله ينظر بعين الحذر والريبة إلى جموح ابن اخته الشعري، فقال لأمه: "أخشى على هذا الفتى من كبر نفسه التي لا تتسع لها عشيرته. إنه أمة وحده، فإما أن يتبعه قومه فيعزوا به أو يهلكوا معه، وإما أن يعيش فريدًا ويموت وحيدًا عزيزًا محمودًا، فلا أدري هل أغبطه أم أخشى عليه".
لم يجد طرفة في نفسه رغبة في المهادنة أو التنازل عن مبادئه، بل ظل متقد الحس الشعري، باحثًا عن ضرب من البطولة لا يمكن الوصول إليه إلا بالخروج من كنف القبيلة. وهكذا وجد نفسه في العراء، يأنس إلى عواء الذئب، ويهرب من صوت الإنسان. عاش بين صعاليك العرب وأصحاب الوجوه الشاحبة، الذين لم يلحقهم آباؤهم بأنسابهم، والمعدمين الذين لم يجدوا من يغيثهم من قومهم، والمنبوذين الذين تبرأت منهم قبائلهم. إن معاشرة هؤلاء الخارجين عن القانون جعلته يرى الفضيلة في الرذيلة، والنبل في الجفاء. وكيف لا يتعاطف مع رفيقه سارق الإبل، إذا كان هذا الأخير لا يفعل ذلك إلا لجمع المهر المطلوب للزواج بمعشوقته.
لم يعتمد طرفة في سعيه لتقويم الاعوجاج على فنون السياسة والحكم كما فعل شيشرون. لذلك نجده بعد أن أنهكه الترحال في الصحراء القاحلة، ينضم إلى ابن أمامة الذي كان يسعى للإطاحة بأخيه ملك اليمن. لقد أقدم طرفة على مغامرة غير مأمونة العواقب بقبوله الانخراط في الثورة على الحاكم، متمنيًا أن يؤدي إسقاط الملك إلى تغيير طبيعة السلطة والحكم. لكن الأقدار شاءت أن يفشل المشروع الثوري بمقتل مدبره غدرًا. عندها قرر طرفة أن يتوجه إلى قصر الملك ليخبره بموت أخيه الذي كان يسعى للانقلاب عليه، مطالبًا إياه بالثأر ممن خانه. لم يجد الملك أمام شجاعة طرفة ورباطة جأشه إلا أن يعفو عنه ويقربه إليه.
وهكذا تمكن الملك بدهائه من كسر شوكة الشاعر وتجريده من قوة كلماته اللاذعة، ليحوله إلى مجرد ناظم قوافٍ مقيم في القصر، مهمته هي مدح حركات الملك وسكناته، صوته وصمته. وهكذا أصبح طرفة المثال الأبرز على مسيرة الشاعر المتأرجحة بين البطولة الشعرية المطلقة، التي لا يمكن تحقيقها إلا في الفضاءات المفتوحة، في مجاهل التيه والترحال، بعيدًا عن مراكز القوة والنفوذ، وبين التعبير الفني المبتور، المنفصل عن الحس الثوري المتوقد.
كان بإمكان طرفة أن ينجو بحياته بالهرب مع خاله، بعيدًا عن المشنقة التي أعدها لهما الملك. لكن طرفة اختار نهايته المأساوية بنفسه. عندما رأى أعرابي جسد طرفة معلقًا على النخلة وسأل عمن فعل به هذا، أجابه أحد المارة: "ذاك فتى قتله شعره، أو كبرياؤه، أو قومه، أو عمرو بن هند…لا أعرف". أما زوجة الأعرابي، فقد نزلت من جملها وسارت نحو الشاب القتيل، ولما أطالت الوقوف والتأمل ناداها زوجها من الخلف: "كفى يا خولة! تعالي إلي". هنا يدرك القارئ أن طرفة لا يزال حيًا في قلب امرأة يكن له حبًا دفينًا.
خلاصة واستنتاج:
نجد في كتابات كل من روبرت هاريس ووليد سيف تجسيدًا حيًا للأدب في أبهى صوره وأروع معانيه، حيث ينجح الكاتبان ببراعة، بفضل لغتهما الساحرة وحسهما التاريخي العميق، في استخلاص معاني الوجود الكبرى من قصص الأولين. فالحديث عن شيشرون أو طرفة ليس غاية في ذاته، بل الهدف منه هو التنبيه إلى ظاهرة أو ظواهر تستحق الوقوف عندها في واقع القارئ المعاصر. ولعل روايات هاريس وسيف تثير فينا، أكثر من الدراسات الأكاديمية الجافة، الرغبة في التأمل في العلاقة الشائكة بين الكلمة والسلطة، كما تغذي الدرس البلاغي الذي تحول إلى مجرد اجترار ممل لا طائل منه.
نستخلص من ثلاثية هاريس أن سلطة الكلمة كانت الأساس الذي قام عليه النظام الديمقراطي في روما القديمة، وأن استمرار هذا النظام مرهون ببقاء هذه السلطة حية ويقظة. فمع اغتيال شيشرون، رمز الخطيب المفوه الذي حمل على عاتقه مهمة الحفاظ على وحدة روما، يخلو الجو أمام الاستبداد القيصري. لكن ما يدعو إلى التأمل العميق هو أن الكلمة في السياق الروماني قد تجاوزت طور البطولة الشعرية، حيث كان الشاعر يمتطي صهوة الكلمة للتعبير عن شعور مطلق بالوجود في الكون، وليس في فضاء المدينة المغلق، لتصل إلى طور البلاغة الخطابية، حيث يصوغ الخطيب مصالحه في سياق التنافس مع خطباء آخرين ذوي مصالح مختلفة.
وهذا يختلف اختلافًا جوهريًا مع السياق العربي الإسلامي، حيث ظل الكلام يتأرجح بين الفخر والمدح والهجاء. فالفخر هو أسلوب الشاعر الذي يعميه زهوه بالقول عن قصوره في الفعل، إذ يتوهم أنه يعيد تشكيل العالم وفق رؤيته الخاصة بكلماته. أما المدح فهو تعبير عن انحيازه المطلق إلى السلطة، مما يجعله مجرد ناطق رسمي باسمها. بينما الهجاء هو تعبير عن اصطدامه بالسلطة وانقطاع كل صلاته بها.
لا شك أن الوحي قد ساهم في نقل الثقافة العربية من طور البطولة الشعرية إلى أفق بلاغي أرحب، يكون فيه المتحدث الشاعر قولًا وفعلًا. غير أن اهتمام هذه الثقافة سرعان ما انصرف إلى مجرد عقد مقارنات بين كلام الله وكلام البشر بغرض إثبات الإعجاز القرآني. وقد أدى هذا الاهتمام المفرط إلى ظهور محاور استقطاب جديدة، يكون فيها الإنسان إما متحدثًا يسعى إلى إيجاد امتداد لكلامه في كلام الله سبحانه وتعالى، وإما متحدثًا ضالًا خارجًا عن طريق الحق، مما أضعف قدرة الكلمة على بناء المجال السياسي.
وبناءً على ما سبق، يظل الإنسان في الثقافة العربية الإسلامية اليوم في أمس الحاجة إلى تجديد الوعي بأهمية البلاغة من أجل تعزيز سلطة الكلمة وتمكينها من المساهمة الفاعلة في إرساء موازين القوى التي تتماشى معها كلمة السلطة. وتزداد الحاجة إلى إدراك هذه المسألة في ظل عالم معاصر أصبحت فيه الكلمات تُقاس بما تحدثه من ضجيج وصخب، لا بما تحمله من معنى، وذلك بفعل هيمنة التكنولوجيا على وسائل التواصل.